مارتن لوثر: من صكوك الغفران إلى صلح وستفاليا : مارتين لوثر أعلن الحرب على صكوك الغُفران والتوسل بالقديسينلم يكن في حُسبان لوثر أن تتحول معارضته لصكوك الغُفران إلى حرب عارمة على البابوية، ومنها إلى تأسيس العلمنة السياسية في أوروبا كلها. أي كان موقف الكنيسة منه يبقى لوثر الرجل الذي أدخل العلمنة السياسية الى أوروبا.في القرن السادس عشر، رفع مارتن لوثر – مؤسس حركة الإصلاح البروتستانتي - شُعلة الإصلاح الديني، ساعياً إلى تطهير المسيحية من العقائد غير الأصيلة. كان أكثر ما يؤرق مارتن لوثر، إيمان المسيحيين بفكرة صكوك الغُفران. إلا أنه لم يكن في حُسبانه أن يتحول هذا الأرق إلى ثورة إصلاحية كبيرة، لا تعم ألمانيا وحدها، بل القارة الاوروبية بأكملها. ولم يكن يدور في خلده، أن تُسفر مسيرته تلك عن صلح "وستفاليا" الشهير في عام 1648؛ ذلك الصلح الذي وضع حجر الاساس لعلمنة الغرب.
الحرب ضد صكوك الغُفران آمن لوثر بخلو الإنجيل من صكوك الغُفرانكان مارتن لوثر مُحباً للرهبنة منذ نعومة أظافره، الأمر الذي دفعه إلى العكوف على الدراسات اللاهوتية الأكاديمية، حتى صار أستاذاً لدراسات الكتاب المُقدس (الإنجيل) بجامعة فتنبيرغ في عام 1512. لم يكن وصول لوثر إلى هذا المنصب مسألةً سهلةً على والده الفلاح الذي طالما حلم بابنه القاضي؛ ذلك الحلم الذي تحطم أمام إصرار لوثر على مواصلة مسلكه في حقل الدين، وليس القانون.
لطالما كان يُزعجه شعور الغرق في الخطيئة – كما يشير الدكتور عبد الله أبو عِزة في كتابه "حوار الإسلام والغرب" – مما أوصله في النهاية، بعد تفكير عميق، إلى اعتناق عقيدة التبرئة بالإيمان التي تقول: إن رضا الرب يأتي عن طريق الإيمان وحده، وليس عن طريق العمل الصالح. ومن هنا كان رفضه للسلطة البابوية والمجالس الكنسية التي كانت تبيع صكوك الغُفران للمسيحيين باعتبارها الوسيلة الوحيدة لمسح الخطيئة. ومن ثم كان قوله: "إن العفو الذي يصدره البابا لا يمكن أن يزيل أقل خطيئة" (أبو عِزة، 105).
تحول سلوكه الرافض لتلك الصكوك إلى فعل حركي، تبلور في 31 أكتوبر 1517، حينما قام بإعداد قائمة بالاعتراضات على عملية بيع صكوك الغُفران، ضمت حوالي 95 اعتراضاً. ولم يكتف لوثر بذلك، بل قام بعدها بتعليق القائمة على باب كنيسة الحصن الذي كان يُستخدم دوماً لمثل تلك الأغراض.
وكما يقول أبو عِزة، فقد مثلت تلك القائمة الشرارة التي أدت إلى انفجار حركة الإصلاح الديني الذي شهده الغرب على امتداد قرنٍ بأكمله. والعجيب في الأمر، أن لوثر لم يكن لديه مشروع عام للإصلاح الديني، بل كان يريد فقط إصلاح الخلل الكامن في صكوك الغُفران، وما شابهه من عقائد غير أصيلة مثل التوسل بالقديسين وتقديس مُخلفاتهم الأثرية، بل كان يبتغي ذلك في سبيل الدفاع عن سمعة البابوية.
الإصلاح البروتستنتي بعد طرده من الكنيسة الكاثوليكية، أعلن لوثر حربه على البابوية كلها الموقف العنيف لبابا الفاتيكان – ليو العاشر آنذاك – قلب قضية لوثر رأساً على عقب. فمن مُدافع عن سُمعة البابا، أضحى لوثر من أشد المُهاجمين للكرسي المقدس. لم يكن موقف البابا سهلاً أو بسيطاً، فهو لم يكتف فقط بطرد لوثر من الكنيسة الكاثوليكية، باعتباره ناقضاً لفكرة صكوك الغُفران، بل وصفه بالانحراف والهرطقة Heretic؛ وهو وصف كان يتبعه عقاب وحيد في ذلك الوقت: إنه عقاب الحرق وسط الناس أجمعين.
لم يكن بوسع لوثر ساعتها إلا الهرب وطلب الحماية من أمير سكسونيا، فريديريك ذه وايز، الذي أظهر استعداده لاحتضانه ومساعدته. وبدأ لوثر – منذ هذه اللحظة – توسيع نطاق معركته من محاربة صكوك الغُفران إلى محاربة البابوية، بمعنى أدق إلى محاربة سلطة البابا سواءً على الكتاب المقدس أو على الحكام المدنيين، كما أوضح أبو عِزة.
لقد نادى لوثر، من خلال حركته الموسعة، إلى المساواة بين طبقة رجال اللاهوت المسيحي (الإكليروس) وبين المسيحيين العاديين، كما دعا إلى حق الفرد في تفسير الإنجيل، الأمر الذي شجع الفلاحين الألمان على قراءة الإنجيل الذي كشف لهم حقيقة وضعهم، وهي: أنه لا مبرر للضنك الذي يكابدونه منذ عشرات السنين. وبدأت ثورات الفلاحين في الاكتساح، حاملةً معها أقصى أنواع التطرف والانتقام، فكان لذلك مردود سلبي واضح على الحركة البروتستانتية. فقد حرق الفلاحون مئات القرى والأديرة، معتبرين ثورتهم "انتفاضةً باسم الإنجيل"، كما أورد أبو عِزة في كتابه. ولم يكن أمام لوثر إلا الخروج من مخبأه – مُضحياً بحياته – لكي يوقف تطرف أتباعه.
الوصول إلى صلح ويستفاليا الفصل بين الدولة والكنيسة تم رسمياً في عام 1648لم تشتعل الحروب فقط بين البابا والبروتستانت، بل اشتعلت أيضاً بين البروتستانت أنفسهم. وأكبر دليل على ذلك، اندلاع "حرب الثلاثين عاما" (1618-1648 ) التي مثلت عراكاً شرساً بين اللوثريين والكلفانيين (جماعة نشأت من رحم الحركة اللوثرية وانشقت عنها فيما بعد). ولم تضع الحرب أوزارها إلا بعد انعقاد مؤتمر كبير، سُمي بصلح ويستفاليا (نسبة الى منطقة وستفاليا الواقعة في غرب المانيا)، حيث شارك فيه 121 مندوباً من ممثلي الحكومات في العالم الأوروبي.
اتفق هؤلاء المندوبون على وضع نهاية للحروب الدينية في ألمانيا وإدخال الطوائف الدينية الثلاث – الكاثوليكية واللوثرية والكلفانية – تحت مظلة التسامح الديني. إلا أن الأهم من ذلك، كما أشار أبو عِزة، كان اشتمال ذلك المؤتمر على تجريد السلطة البابوية من حق التدخل في الشئون التي تخص الكيانات السياسية في أوروبا، ومن ثم تأسيس العلمنة السياسية في عالم الغرب.
موجز القول، لقد أسفرت التجربة القاسية مع السلطة البابوية عن مثل هذا الانقلاب الفكري المسيحي الذي جعل الإيمان وحده - دون العمل - كافياً لإرضاء الرب، والذي سحب الدين من الحياة سحباً أبدياً ومُطلقاً. لقد انتهت التجربة – ليس فقط بمعاقبة السلطة الدينية – بل بمعاقبة الدين ذاته. بمعنى آخر، لم يتم التفريق بين الدين كعقيدة وبين الممارسين الذين أساءوا استخدام هذا الدين، بل تم تحميل الدين ذنوب مُستخدميه...فكان الدين هو الضحية.