الشاعر التغلبي هاجم الخليفة الأموي فأمر بإعدامه!
قصة مثيرة موجودة بين طيات كتب التراث، عن شاعر هاجم أقوي خلفاء بن أمية، وكان مصيره الموت، وعندما ضاقت به الأرض بما رحبت لجأ إلي حيلة أنقذته من موت محقق!
أنه الشاعر التغلبي وقصة هذا الشاعر أنه في لحظة من اللحظات التي مرت به، حاول أن يهاجم الخلفية الوليد بن عبدالملك، والوليد بن عبدالملك لم يكن مجرد خليفة من خلفاء بني أمية، بل كان من أعظم هؤلاء الخلفاء علي الاطلاق، فقد كان قويا، وفي عصره امتدت الفتوحات الاسلامية لتشمل الشمال الافريقي كله، ثم عبرت جيوشه عبر الاطلنطي لتكتسح الاندلس، وتصبح حدود دولة الاسلام
بالقرب من فرنسا بعد أن اجتاحت جيوشه إحدي الدول الاوربية وهي الاندلس، بل امتدت فتوحاته لتشمل السند في شبه الجزيرة الهندية وبلاد ما وراء النهر.
امبراطورية بكل هذه العظمة وبكل هذا الاتساع ماذا يمكن أن يكون عليها القابض علي أمورها في دمشق؟
بل إن عظمة هذا الخليفة لا تقتصر علي الفتوحات الاسلامية، بل تعدت ذلك الي الاصلاحات الهائلة التي قام بها ومنها توسعة مسجد الرسول صلي الله عليه وسلم في المدينة والذي اشرف علي ذلك عمر بن عبدالعزيز ابن عم الخليفة.
كما انه بني المسجد الاقصي في القدس ومسجد دمشق.
يقول عنه الطبري:
'كان الوليد عند أهل الشام أفضل خلائفهم بني المساجد، مسجد دمشق، ومسجد المدينة، ووضع المنابر ،واعطي الناس واعطي المجذومين، وقال: لا تسألوا الناس، واعطي لكل مقعد خادما، ولكل ضرير قائدا، وفتح في عهده فتوح عظام'.
وهذا الخليفة العظيم ولد عام 50 ه ومات عام 96ه.
* * *
هذا الخليفة الوليد بن عبدالملك تصل الي أذنه أبيات من الشعر، كما يؤكد ذلك أبوالحسن المدايني فيقول:
أتنسي يا وليد بلاد قومي
بملك والزبيريون صيد
أتنسانا اذا استغنيت عنا
وتذكرنا اذا صل الحديد!
وهذا الشعر يشرحه الاستاذ أحمد حسن الباقوري بقوله:
يقول الشاعر يؤنب أمير المؤمنين الوليد بن عبدالملك:
انه لا يليق بك أن تنسي قومي وصنيعهم معك.. ومع ابائك مما ثبت ملكك، واتباع الزبير والمنتسبين اليهم لهم قوة وصوله، وملك بني أمية مهدد بهم.
وأن هذا لا يليق بأخلاق الكبار أن ينسوا حسن صنيع الناس اليهم اذا ادركهم الرخاء، وزالت عنهم الشدة ثم يذكرونهم اذا احتاجوا اليهم ليزودوا عنهم شرا أو يدفعوا نازلة!
وهذا الشعر علي ما يبدو للمتأملين شعر شديد القدح يتأذي به سوقة الناس فضلا عن امرائهم ورؤسائهم لأن فيه وصفا للوليد بن عبدالملك بأخلاق تليق بالسوقة ولا تليق بالملوك، ويأتيها الصغار من الناس ويتنره عنها كبار النفوس'
* * *
وكان من الطبيعي أن يصل هذا الي أسماع الوليد، فما أسرع الذين ينقلون لأصحاب السلطة والجاه ما يدور في دنيا الناس، فما بالك بشاعر يهجو أمير المؤمنين، ويتهمه بما ليس فيه..
وكان من الطبيعي أيضا أن يتأذي الخليفة مما سمع ويغضب لنفسه غضبا شديدا، فهو الخليفة الذي رفع راية الاسلام في كل مكان، وهو الخليفة الذي يدعي له علي المنابر من حدود الصين حتي الاندلس، هل يمكن له أن يتقبل كلمات هذا الشاعر الذي فقد عقله في لحظة طيش أو غضب!
وكان من الطبيعي أن يأمر الخليفة باحضار التغلبي لمحاكمته ويجازيه بما اقترف لسانه!
* * *
وعرف التغلبي أنه تهور بهذه الكلمات، وأنه سوف يطلب للمحاكمة، وأن مصيره الموت، فترك بلاده وهرب ينبغي طريقا لخلاص. ولكن الهرب الي أين؟
وكيف يختفي وشرطة الخليفة وعيونه في كل مكان؟
وإن استطاع أن يختفي أياما أو شهورا، فهل يمكن أن يختبيء إلي الابد؟
وما مصير أولاده وزوجته؟
* * *
وأحس التغلبي أن الارض تضيق عليه بما رحبت، وأنه سوف يمثل أمام الخليفة لا محالة!
وأدرك أيضا أنه من الصعب عليه التخفي الي الابد وأنه عندما يمثل في حضرة الخليفة، فسوف يأتون به مقيدا بالاغلال، وهو لا يدري إن كانوا سيحضر منه الي الخليفة أم يعاقبونه دون أن يراه الخليفة!!
وأخذ يفكر في طريقة للخلاص.
ووجد أن هذه الطريقة هو أن يذهب الي قصر الخلافة في دمشق، فهو يعرف أن الخليفة يقيم مائدة لرعاياه، وعليه أن يحضر هذه المائدة ثم يستعطف الخليفة ويعتذر!
انه في هذه الحالة سوف يكون ضيفا علي أمير المؤمنين، وبذلك يستثير النخوة العربية التي يتحلي بها الخليفة ويطلب العفو!
* * *
وذهب التغلبي وحضر العشاء مع الخليفة، وعرفه بعض من كانوا علي مائدة الخليفة، وأخبروا الوليد بن عبدالملك.
واستدعاه الخليفة قائلا له:
يا عدو الله لقد امكنني الله منك
وأخذ الشاعر التغلبي يتوسل ويسترحم وهو يقول:
لقد قلت في نفسي أن امهلك حتي اطأ بساط الخليفة، وأكل طعامه، فقد امنت، وأن عوجلت فقد هلكت، وقد امهلت حتي وطئت بساطك يا أمير المؤمنين، واكلت طعامك، فقد أمنت اذن.
* * *
لقد نجحت حيلة الشاعر.
وصمت الخليفة وهو يسمع كلام التغلبي، وأنه جاءه يطلب العفو، وأنه أكل معه علي مائدة واحدة، وأنه ما جاء اليه الا طمعا في كرمه ومروءته.
وتأمل الخليفة الموقف.. فهو يري أمامه رجلا جاد يلتمس العفو، ولعله في هذه اللحظات طافت بخياله المواقف التي مرت برسوله الكريم، وهي مواقف أصعب وأشد، ومع ذلك عفا النبي وأكرم من تربصوا به الدوائر، وأهانوه!
ألم يكن له في رسول الله أسوة حسنة.
ولعله شاهد الرجل في لحظات ضعفه وبأسه وهوانه، وقد ضاقت عليه الارض بما رحبت فلجأ الي الخليفة نفسه يسترحمه ويستعطفه ويوقظ في أعماقه احترام الضعف الانساني وقد فعل!
* * *
لقد عفي عنه الخليفة علي كل حال، وقال له:
انصرف آمنا راشدا!
* * *
يقول الشيخ الباقوري تعليقا علي هذه الحكاية الطريفة:
'فأمنه الوليد فانصرف آمنا راشدا فلما ولي لم يتمثل الوليد بأية من كتاب الله ولا بأدب من أدب رسول الله صلي الله عليه وسلم ولكنه تمثل بشعر عربي أصيل يقول فيه الشاعر:
شمس العداوة حتي يستقاد لهم
وأعظم الناس أحلاما اذا قدروا.
يعني أنهم من بعد الهمته، وكبر النفس بحيث لا تسهل عداوتهم.
فاذا امكنتهم الفرصة من عددهم فقدروا عليه فانهم يعفون عنه لانهم كبار الهمم، كبار النفوس.
والعفو عند المقدرة من مكارم الاخلاق'
* * *
وهذه الحكاية من أجمل قصص التراث لما فيها من نزعة انسانية، ولما فيها من تصوير النفس البشرية عندما ينطلق لسانها بما لا تقوي علي تحقيقه، وعندما تصطدم بالواقع لا تجد الا رجع بكاء.. ولا تجد الا الاستعطاف حتي لا يقع المحظور، وتنتهي حياتهم بكلمة تخرج من فم حاكم أو أمير!
مراجع:
قطوف من أدب النبوة .. أحمد حسن الباقوري
العصر الاموي .. أ. د. عبدالشافي محمد عبداللطيف